عن الشيخ
عن الشيخ

نبذة عن حياة الشيخ عبدالرحمن بن محمد الدوسري

 

بقلم ولده إبراهيم عبدالرحمن الدوسري

 

 

إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

 

وبعد:

 

ترددت كثيراً قبل أن أمسك القلم لأكتب نبذة عن حياة والدي وأستاذي الشيخ عبدالرحمن الدوسري رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً..

 

ترددت لأني خشيت ألا أعطي الموضوع حقه، فزادي من المعرفة قليل، وقدرتي على الإحاطة بالتفسير والمعرفة متواضعة ورحم الله رجلاً عرف حده فوقف عنده، ولولا الوفاء للوالد الراحل والبر به حياً وميتاً لما كتبت كلمة واحدة..

 

وبهذه المناسبة أذكر قوله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [الرعد:41].

 

قال ابن عباس في تفسير هذه ألآية خرابها بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير فيها ، وكذا قال مجاهد - أيضاً-:هو موت العلماء.

 

ورحم الله من قال:

الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها

متى يمت عالم منها يمت طرف

كالأرض تحيا إذا ما الغيث حل بها

وإن أبى عاد في أكنافها التلف

 

وأشهد أن جهدي وجهد أشقائي في مضمار الدعوة الإسلامية لا يعادل – مهما عملنا - بعض ما كان يبذله الوالد رحمه الله، حيث كان يجوب البلاد، وينتقل بين الأحياء واعظاً ناصحاً، آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر.

 

لقد حاضر في معظم مدارس وجامعات المملكة السعودية، وكان يخطب الجمعة، ويشهد مواسم الحج، ويصوم رمضان في مكة المكرمة، وهناك في بيت الله الحرام يجتمع الناس حوله، فيتحدث إليهم ويجيب على أسئلتهم.

 

وكان رحمه الله لا يتقاضى أجراً على أنشطته ودروسه، ويرى بأن إعراض الناس عن بعض أهل العلم جاء بعد أن صاروا موظفين وأجراء عند السلاطين.

 

وكان رحمه الله واسع العلم والمعرفة كأنما يغرف من بحر، ووهبه الله ذاكرة عجيبة، فيكاد لا ينتهي من قراءة بحث أمامه حتى يحفظه عن ظهر قلب، وعلومه لم تكن قاصرة على جانب من الجوانب، فهو مفسر، وفقيه، ومحدث، وعنده اطلاع واسع على المخططات التي يدبرها أعداء الإسلام، فتراه يحدثك عن دعاة القومية والعلمانية وتاريخهم وأفكارهم، وعن ردوده عليهم شعراً ونثراً، ثم ينتقل بك إلى الماسونية واليهودية وعن أوكارها في العالم الإسلامي وأهدافها، ثم يحدثك عن الشيوعية والشيوعيين وكتبهم وأباطيلهم وفضائحهم، وعن الوجوديين (كجان بول سارتر) وغيره،وردوده عليه وعلى أمثاله.

 

وفي أحاديثه كلها رصانة وموضوعية، وقدرة عجيبة على ربط الأمور، والإحاطة بها، وكشف أسرارها.

 

وفي بيته كان نعم الأستاذ والموجه والوالد الناصح، ومن أعز أمانيه أن يسير أبناؤه على طريقته في الدعوة والتوجيه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان في مشاعره وأحاسيسه يعيش آلام الأمة الإسلامية كلها. كنا نراه حزيناً على المذابح التي يتعرض لها المسلمون في الهند على يد الهندوس، وفي أفغانستان على يد الشيوعيين، وفي قبرص والفلبين على يد الصلبيين، وكان يمشي في قضاء حاجة الضعفاء والمساكين، وكان حريصاً على نشر وتشجيع الكتب والصحف الإسلامية، فأحياناً يشتري عدداً غير قليل من الكتب الإسلامية، ويوزعها على نفقته الخاصة، ويشترك سنوياً في عدد كبير من المجلات الإسلامية ويوزعها، ثم ينصح أهل الخير؛ ليساهموا في هذه الأعمال النافعة.

 

وكان في نصحه لا يخشى في الله لومة لائم، ولماذا يخشى وهو الذي لا يأخذ أجرا على نصحه؟ وليس له مصلحة عند أولي الأمر، ولا يتطلع إلى وظيفة أو جاه، ولهذا عرفه الناس قوياً صريحاً لا يهتم بغضب الناس أو رضاهم، وإنما همه الوحيد أن يرضي رب الناس.

 

وصرف رحمه الله جزءاً مهماً من وقته في سنينه الأخيرة في كتابة تفسيره للقرآن الكريم الذي أسماه : (صفوة الآثار والمفاهيم من تفسير القرآن العظيم) وأذيع معظمه على شكل حلقات في إذاعة المملكة العربية السعودية، فلقي إقبالاً ورواجاً بين أهل العلم والفضل ،وشاء الله أن يفارق الوالد هذه الحياة دون أن ينتهي من التفسير، وإن كان قد قطع فيه مراحل طيبة والحمد لله.

 

وركز رحمه الله في تفسيره على قضايا العقيدة، وبشكل أخص قضايا العقيدة المعاصرة، فرد على شبهات أعداء الإسلام، ودحض أباطيلهم، وبدد أراجيفهم.

 

وبعد هذه التقدمة أقدم للقراء نبذة عن حياة الوالد استخلصت مما كتبه جواباً على سؤال ورده من أحد المشايخ الفضلاء:

 

 

 

هو عبد الرحمن بن محمد بن خلف بن عبدالله الفهد آل نادر الدوسري من قبيلة الدواسر ومن أسرة هم أمراء بلد (السليل) المشهور.

 

ولد في مدينة البحرين عام 1332 هـ، ، نزح جده عبدالله بن فهد آل نادر من قومه وبلاده إلى قرية الشماسية في منطقة القصيم، وتزوج بها ورزق عدد من الأبناء منهم خلف والد محمد ، أنتقل محمد بعدما تزوج بزوجته إلى الكويت، ثم سافر بها إلى البحرين لزيارة أبيها الذي هو الشيخ علي بن سليمان اليحيى، وهناك وضعت ابنها عبدالرحمن صاحب الترجمة الذي رافق والده عند عودته إلى الكويت ونشأ بها ودرس وتعلم ما شاء الله، وبقي فيها أكثر عمره يزاول التجارة؛ ليستغني بها عن ابتذال علمه بالوظائف، التي إما تخرسه عن الصراحة بالحق، أو تجعله يساير رغبات الدولة التي توظفه، فلهذا لجأ إلى العمل الحر شحاً بدينه، وعرفاناً بقيمته، وارتفاعاً بكرامته عن ملابسات الوظائف، وقد قال في قصيدته الميمية التي هي ردٌّ على الشاعر القروي النصراني في شأن الوظائف وفتنتها، وأنها من جملة المخططات الماسونية في ميدان التربية والتعليم:

ولست أمد الطرف نحو مراتب وزينة امتناع مُدَسٍ لآدمي

فذي فتنة الماسون شر من الألي قد استرخصوا فيها لقيمة مسلم

وقيمته أعلى وأغلى مضاعفاً لأضعاف مافي الأرض من كل قيم

فساعٍ إلى نيل الوظيفة بائع رسالته والدين من غير مسوم

حشا أن يرى توظيفه كركيزة لدين وأهل الدين "فليتقدم"

 

نشأ في بيئة صالحة محافظة في حي من أحياء الكويت يدعى (المرقاب)، أكثر أهلها عمارٌ للمساجد، نقادّ للأخلاق، يحض بعضهم بعضاً على الخير والفضيلة، فلذلك يسيطر الحياء عليهم أجمعين.

 

دراسته:

 

لقد طلب العلم في المدرسة المباركية بالكويت ، وكان اسمها مطابقاً لمعناها في السابق، لأنها مدرسة أهلية لا علاقة لها بالحكم والحكام، ولم ترتبط بالمناهج التي خططتها الماسونية للتعليم، بل هي في أول نشأتها تفوق المعاهد والكليات العلمية الدينية في البلاد السعودية، حيث كان الحفظ فيها إجبارياً عن ظهر قلب، ولم يخرج منها إلا وهو حافظ للثلاثة الأصول مع بعض شرحها، وحافظ للدرة المضية نظم السفاريني (209) بيت في التوحيد، وحافظ للرحبية والبرهانية في الفرائض، ومنظومة هدية الألباب في جواهر الآداب للشيخ محمد الجسر، ومنظومة الآداب المشهورة لابن عبد القوي، ولامية ابن الوردي، ولامية العجم، وقصائد كثيرة متنوعة، قد حفظها عن ظهر قلب، وحفظ من متون الفقه دليل الطالب ومجموعة من عبارات غيره، وحفظ القرآن الكريم، وكان لصعوبة تحصيله كل الكتب يحفظ ما يعجبه بمجرد العثور مجلوباً في السوق يطلب من صاحبه السماح بتصفحه، وقد حفظ جملة من أحاديث منتقى الأخيار ومجموعات أخرى من غيره، ودرس السيرة النبوية، وطرفاً من التاريخ، وحفظ شيئاً كثيراً من الكافية الشافية نونية ابن القيم، ولو ظهر توضيح الشيخ عبدالرحمن السعدي لها لتقدم لحفظها كلها ولكن عدم فهمه لبعض معانيها جعله لا يحفل بحفظها.

 

ثم بعد خروجه من هذه المدرسة – المباركة في زمنها- درس الفقه والتوحيد على الشيخ المرحوم عبدالله بن خلف الدحيان، وعلى الشيخ صالح بن عبد الرحمن الدويش رحمه الله، وفي أثناء سفراته للبحرين يحظى بمقابلة الشيخ العلامة قاسم بن مهزع ويتدارس معه البحوث المهمة.

 

وقد تأثر بهذين الشيخين: عبدالله بن خلف، وقاسم بن مهزع – رحمهما الله تعالى -.

 

وكان يحب الجمع بين الفقه والحديث، ولايرى الفصل بينهما، فلا يحب الفقه ناشفاً خالياً من الدليل، ولا يحب تطرف الزاعمين أنهم من أهل الحديث في رفضهم للفقه، ومناصبتهم العداوة للفقهاء، أو التحقير من شأنهم ونحوه، مما فيه إهدار لكرامتهم ونكران لجميلهم.

 

وقد عاصر آخر الأحداث والمنازعات التي أثارها الإنكليز بين الكويت والسعودية، ولا حظ ما جرته تلك الأحداث من البغض والتكفير لبعضهم البعض؛ مما جره إلى البحث والتمحيص، فكان من جراء ذلك مولعاً بكتب البحث والمناظرة والردود مما صار له الأثر القوي في تكوينه العلمي والروحي.

 

وقد صار له نشاط في نشر العلم والتوعية الروحية بإلقاء المواعظ والمحاضرات المتوالية في المساجد والمدارس والأسواق، ويعطي كل موقف حقه الملائم له بحيث لا يلقي في المدرسة شيئاً مما يلقيه في المسجد، بل يلاحظ المناسبة ويرعى الاختصاص، وكانت الأسئلة تنهال عليه فيجيب على بعضها شفهياً في وقفته مهما طالت، ويكتب باقي الأجوبة في الصحف عند ضيق الوقت عن الإجابة الشفهية، وله نشاط في تدعيم العلم الروحي وخدمة الدين بشراء مجموعات كبيرة من الكتب وتوزيعها على حسابه الخاص على مكتبات المدارس والجامعات وغيرها من المكتبات العامة الهامة، كل ذلك يحتسبه لله.

 

وله من المؤلفات عدد غير قليل وهي:

1-       الأجوبة المفيدة.

 

2-       الجواهر البهية.

 

3-       الجواب المفيد.

 

4-       النفاق.

 

5-       التربية في الإسلام.

 

6-       الصوم.

 

7-       الحج.

 

8-        تفثاث داعية.

 

9-       فلسطينيات.

 

10-    اليهودية والماسونية.

 

11-    للحق والحقيقة.

 

12-    يهود اليوم خلفاً سيئاً ليهود الأمس.

 

13-    ردود ومقالات في المجلات والصحف.

 

يرى في مستقبل الجيل الإسلامي ضرورة مقابلة علماء المسلمين وولاتهم لمخططات أعدائهم بما يقابلها ويحبطها، فيقومون بإنشاء المدارس الدينية والروضات التربوية الروحية، وأن يصنع أولاد المسلمين على أعينهم لا على أعين أعدائهم وتلاميذ أعدائهم، وأن يعملوا على إصلاح الأجهزة الإعلامية بتركيز الركائز الطيبة وتغيير برامجها تغييراً جذرياً، بل يرى أن من أوجب الواجب على علماء المسلمين أن يبثوا الوعي الديني الصحيح في طبقات الأمة، ويلهبوا حماس شبابها وأثريائها؛ ليسخوا بتأسيس جميع ما يكفل عودة القيادة الفكرية إليهم، فإذا نجحوا في التربية الروحية وحازوا القيادة الفكرية التي انتزعها منهم أعداؤهم وهم سادرون، كانوا جديرين بالحياة الصحيحة، أما دون هذا فإن مجهودهم يشبه عمل من يعالج الجرح والرأس مقطوع – عياذاً بالله من مثل السوء ومن عاقبة السوء- فإن كل مخطط لا يحبطه إلا مايوازيه أو يزيد عليه، والماسونية اليهودية وإن سبقتنا أشواطاً بعيدة في هذا المضمار فإنه بقوة الوعي، وحسن القصد، والصدق في العمل؛ سنغلبهم في وقت قصير كما قيل: (إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل) والمسألة تتطلب:

 

• الوعي العام الصحيح.

 

• العمل الجاد المتواصل.

 

• اطراح الجبن والشح اللذين هما أصل البلاء ومجمع الشرور.

 

• السخاء في سبيل الله.

 

• البصيرة النافذة بتركيز الركائز الإسلامية الصالحة في كل ميدان، وإعطاء كل عمل حقه.

 

• عدم ترك فراغ يشغله أعداؤنا.

 

• مجابهة كل خطة بما يفسدها.

 

وليكن جميع ذلك بصدق مع الله وإخلاص لدينه، بحيث لا يشوبه رياء ولا سمعة ولا أي شيء من الأنانية، وهنالك يسدد الله الخطا، ويسلك بذا سبيل النصر ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ﴾ [يوسف:21].

 

وهذا مما سجل فقيدنا رحمه الله من أفكاره وتاريخ حياته وآماله وآلمه في هذه الأسطر القليلة التي كتبها عن تاريخ حياته. فللقارئ أن يتأمل حديثه "رحمه الله" عن السبب الذي جعله يعمل في التجارة بدلاً من الوظائف، و من ذلك قوله:

 

إنه يستغني بها عن ابتذال علمه بالوظائف التي تخرسه عن الصراحة بالحق، أو تجعله مسايراً لرغبات الدولة التي توظفه، فلهذا لجأ إلى العمل الحر شحاً بدينه، وعرفاناً بقيمته، وارتفاعاً بكرامته عن ملابسات الوظائف.

 

وكان رحمه الله في وصيته مثالاً لأهل الخير وقدوة جديرة بالاتباع ، فقد أوصى بثلث ماله للجمعيات والمراكز الإسلامية القائمة بأمر الدعوة إلى الله، وفي نشر الكتب والمنشورات الإسلامية وفي إطعام المحتاجين من الفقراء والمساكين وسائر القربات، مع مراعاة الأهم فالأهم حسب الترتيب الذي ذكره.

 

وأخيراً: أشعر بأن خسارة الدعوة الإسلامية في وفاة الوالد "رحمه الله" كبيرة جداً..

 

وقد كان طلابه ومحبوه أوفياء له يوم تركوا أعمالهم وهُرِعوا إلى المسجد الكبير، فصلوا عليه وأبو إلا أن يحملوا نعشه على أكفهم إلى المقبرة ، وكان موكباً لم تشهده المدينة من قبل.. وهكذا يقدر الناس الرجال الدعاة في حياتهم وبعد مماتهم.

 

وبعد أن توقف القلب الذي كان ينبض بالعقيدة والدعوة وإعلاء كلمة الله، لا أملك أكثر من ترديد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". رواه مسلم، وكانت وفاته في 16/11/1399 هـ.

 

اللَّهم نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك الرفيعة وبكل اسم إذا دعيت به أجبت أن تغفر لفقيدنا خطاياه، وأن تتقبل صالح أعماله، وأن تثيبه على ما أنفق في سبيلك، وأن تمن عليه بالجنة مع النبيين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. اللَّهم لا تفتنا بعده، واغفر لنا وله.

 

اللَّهم اجعلنا من عبادك الصالحين الذين يدعونك فتتقبل دعاءهم.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.